فصل: تفسير الآيات رقم (11- 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 18‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏هنالك ابتلي المؤمنون‏}‏ أي عند ذلك اختبر المؤمنون بالحصر والقتال ليتبين المخلصون من المنافقين ‏{‏وزلزلوا زلزالاً شديداً‏}‏ أي حركوا حركة شديدة ‏{‏وإذ يقول المنافقون‏}‏ يعني معتب بن قشير وقيل عبد الله بن أبيّ وأصحابه ‏{‏والذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي شك وضعف اعتقاد ‏{‏ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً‏}‏ هو قول أهل النفاق يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا هو الغرور‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وإذ قالت طائفة منهم‏}‏ أي من المنافقين وهم أوس بن قيظي وأصحابه ‏{‏يا أهل يثرب‏}‏ يعني يا أهل المدينة وقيل يثرب اسم الأرض ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في ناحية منها سميت يثرب باسم رجل من العماليق كان قد نزلها في قديم الزمان وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسمى المدينة يثرب وقال هي طيبة كأنه كره هذه اللفظة لما فيها من التثريب وهو التقريع والتوبيخ ‏{‏لا مقام لكم‏}‏ أي لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه ‏{‏فارجعوا‏}‏ أي إلى منازلكم وقيل عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وقيل عن القتال ‏{‏ويستأذن فريق منهم النبي‏}‏ يعني بني حارثة وبني سلمة ‏{‏يقولون إن بيوتنا عورة‏}‏ أي خالية ضائعة وهي مما يلي العدو ونخشى عليها السراق فكذبهم الله تعالى بقوله ‏{‏وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً‏}‏ أي أنهم لا يخافون ذلك إنما يريدون الفرار من القتال ‏{‏ولو دخلت عليهم في أقطارها‏}‏ يعني لو دخل هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحزاب من نواحي المدينة وجوانبها ‏{‏ثم سئلوا الفتنة‏}‏ أي الشرك ‏{‏لأتوها‏}‏ أي لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام ‏{‏وما تلبثوا بها‏}‏ أي ما احتبسوا عن الفتنة ‏{‏إلا يسيرا‏}‏ أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به نفوسهم، وقيل معناه وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل‏}‏ أي من قبل غزوة الخندق ‏{‏لا يولون الأدبار‏}‏ أي لا ينهزمون، قيل هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها، وقيل هم أناس غابوا عن وقعة بدر فلما رأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن فساق الله إليهم ذلك ‏{‏وكان عهد الله مسؤولاً‏}‏ أي عنده في الآخرة ‏{‏قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل‏}‏ أي الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل لا بد من ذلك ‏{‏وإذاً لا تمتعون‏}‏ أي بعد الفرار ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ أي مدة آجالكم وهي قليل ‏{‏قل من ذا الذي يعصمكم‏}‏ أي يمنعكم ‏{‏من الله إن أراد بكم سوءاً‏}‏ أي هزيمة ‏{‏أو أراد بكم رحمة‏}‏ أي نصراً ‏{‏ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏ أي ناصراً يمنعهم ‏{‏قد يعلم الله المعوقين منكم‏}‏ أي المثبطين الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏والقائلين لإخوانهم هلم إلينا‏}‏ أي ارجعوا إلينا ودعوا محمداً صلى الله عليه وسلم فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك، قيل هم أناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون لهم ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحماً لالتهمهم أي ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك‏.‏

وقيل نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إليهم ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحداً وإنا نشفق عليكم فأنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا فأقبل عبد الله بن إبيّ ابن سلول وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، وقالوا لئن قدر اليوم عليكم لم يستبق منك أحداً أما ترجعون عن محمد ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا ها هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنين بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً وقوله تعالى ‏{‏ولا يأتون البأس‏}‏ يعني الحرب ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ أي رياس وسمعة من غير احتساب ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 23‏]‏

‏{‏أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏أشحة عليكم‏}‏ أي بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة وصفهم الله بالبخل والجبن ‏{‏فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم‏}‏ أي في رؤوسهم من الخوف والجبن ‏{‏كالذي يغشى عليه من الموت‏}‏ أي كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيه أسبابه فإنه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف ‏{‏فإذا ذهب الخوف‏}‏ أي زال ‏{‏سلقوكم‏}‏ أي آذوكم‏.‏ ورموكم في حالة الأمن ‏{‏بألسنة حداد‏}‏ أي ذربة تفعل كفعل الحديد قال ابن عباس معناه عضوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة، وقيل بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون أعطونا فإنا شهدنا معكم القتال فلستم بأحق بالغنيمة منا فهم عند الغنيمة أشجع قوم وعند الحرب أجبن قوم ‏{‏أشحة على الخير‏}‏ أي يشاحون المؤمنين عند الغنيمة فعلى هذا المعنى يكون المراد بالخير المال ‏{‏أولئك لم يؤمنوا‏}‏ أي لم يؤمنوا حقيقة الإيمان وإن أظهروا الإيمان لفظاً ‏{‏فأحبط الله أعمالهم‏}‏ أي التي كانوا يأتون بها مع المسلمين قيل هي الجهاد وغيره ‏{‏وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ أي إحباط أعمالهم مع أن كل شيء على الله يسير‏.‏ قوله تعالى ‏{‏يحسبون‏}‏ يعني هؤلاء المنافقين ‏{‏الأحزاب‏}‏ يعني قريشاً وغطفان واليهود ‏{‏لم يذهبوا‏}‏ أي لم ينصرفوا عن قتالهم جبناً وفرقاً وقد انصرفوا عنهم ‏{‏وإن يأت الأحزاب‏}‏ أي يرجعوا إليهم للقتال بعد الذهاب ‏{‏يودوا لو أنهم بادون في الأعراب‏}‏ أي يتمنون لو أنهم كانوا في بادية مع الأعراب من الجبن والخوف ‏{‏يسألون عن أنبائكم‏}‏ أي عن أخباركم وما آل إليه أمركم ‏{‏ولو كانوا فيكم‏}‏ يعني هؤلاء المنافقين ‏{‏ما قاتلوا إلا قليلاً‏}‏ يعني يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم فيقولون قد قاتلنا معكم وقيل هو الرمي بالحجارة وقيل رياء من غير احتساب‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏}‏ أي قدوة صالحة أي اقتدوا به اقتداء حسناً وهو أن تنصروا دين الله وتؤازروا رسوله ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ قد كسرت رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه وأوذي بضروب الأذى فصبر وواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضاً واستنوا بسنته ‏{‏لمن كان يرجوا الله‏}‏ يعني أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يرجو الله قال ابن عباس يرجو ثواب الله ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ يعني ويخشى يوم البعث الذي فيه الجزاء ‏{‏وذكر الله كثيراً‏}‏ أي في المواطن على السراء والضراء ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال تعالى ‏{‏ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله‏}‏ أي قالوا ذلك تسليماً لأمر الله وتصديقاً بوعده ‏{‏وصدق الله ورسوله‏}‏ أي فيما وعدا وهو مقابلة قول المنافقين ‏{‏ما وعدنا الله إلا غروراً‏}‏

وقولهم ‏{‏وصدق الله ورسوله‏}‏ ليس إشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله ورسوله قبل الوقوع، وإنما هو إشارة إلى البشارة في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس، وقيل إنهم وعدوا أن تلحقهم شدة وبلاء فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا هذه ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ‏{‏وما زادهم إلا إيماناً‏}‏ أي تصديقاً لله ‏{‏وتسليماً‏}‏ أي لأمره‏.‏ قوله تعالى ‏{‏من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ أي قاموا بما جاهدوا الله عليه ووفوا به ‏{‏فمنهم من قضى نحبه‏}‏ أي فرغ من نذره ووفى بعهده وصبر على الجهاد حتّى استشهد، وقيل قضى نحبه يعني أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه، وقيل قضى نحبه أي بذل جهده في الوفاء بالعهد وقيل قضى نحبه استشهد يوم بدر وأحد ‏{‏ومنهم من ينتظر‏}‏ يعني من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين إما الشهادة أو النصر على الأعداء ‏{‏وما بدلوا‏}‏ يعني عهدهم ‏{‏تبديلاً‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أنس قال غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون قال اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحاً من دون أحد فقال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه‏:‏ من المؤمنين رجال صدقوا ما عدهوا الله عليه إلى آخر الآية‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن خباب بن الأرت قال «هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله‏.‏ فوقع أجرنا على الله فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة وكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدت رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه سلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه من الأذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها» النمرة كساء ملون من صوف، وقوله ومنا من أينعت أي أدركت ونضجت له ثمرته، وهذه استعارة لما فتح الله لهم من الدنيا، وقوله يهدبها أي يجتنيها ويقطعها‏.‏ عن أبي موسى بن طلحة قال «دخلت على معاوية فقال ألا أبشرك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ طلحة ممن قضى نحبه» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال هذا حديث غريب ‏(‏خ‏)‏ عن قيس ابن أبي حازم قال «رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ليجزي الله الصادقين بصدقهم‏}‏ أي جزاء صدقهم وصدقهم هو الوفاء بالعهد ‏{‏ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم‏}‏ أي فيهديهم إلى الإيمان ويشرح له صدورهم ‏{‏إن الله كان غفوراً رحيماً ورد الله الذين كفروا‏}‏ يعني قريش وغطفان ‏{‏بغيظهم‏}‏ أي لم يشف صدروهم بنيل ما أرادوا ‏{‏لم ينالوا خيراً‏}‏ أي ظفراً ‏{‏وكفى الله المؤمنون القتال‏}‏ أي الملائكة والريح ‏{‏وكان الله قوياً‏}‏ أي في ملكه ‏{‏عزيزاً‏}‏ أي في انتقامه‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب‏}‏ أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين وهم بنو قريظة ‏{‏من صياصيهم‏}‏ أي من حصونهم ومعاقلهم واحدها صيصية ‏{‏وقذف في قلوبهم الرعب‏}‏ أي الخوف ‏{‏فريقاً تقتلون‏}‏ يعني الرجال يقال كانوا ستمائة ‏{‏وتأسرون فريقاً‏}‏ يعني النساء والذراري يقال كانوا سبعمائة قيل وخمسين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها‏}‏ يعني بعد قيل هي خيبر ويقال إنها مكة وقيل فارس والروم وقيل هي كل أرض تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة ‏{‏وكان الله على كل شيء قديراً‏}‏‏.‏

قيل كانت في آخر ذي القعدة سنة خمس‏.‏ وعلى قول البخاري المتقدم في غزوة الخندق عن موسى بن عقبة أنها كانت في سنة أربع‏.‏ قال العلماء بالسير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح في الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح، فلما كان الظهر أتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمماً بعمامة من إستبرق على بغلة بيضاء عليها رحالة وعليها من قطيفة من ديباج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه فقال جبريل يا رسول الله قد وضعت السلاح‏؟‏ قال‏:‏ «نعم قال‏:‏ جبريل عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة وما رجعت الآن إلا من طلب القوم» وروى أنه كان الغبار على وجه جبريل وفرسه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجهه ووجه فرسه فقال إن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إلى بني قريظة فانهز إليهم فإني قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً فأذن أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرهم الناس، وسار علي حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فقال‏:‏ يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث‏.‏ قال‏:‏ «أظنك سمعت لي منهم أذى قال‏:‏ نعم يا رسول الله قال‏:‏ لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال» يا أخوان القردة قد أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته «‏.‏ قالوا‏:‏ يا أبا القاسم ما كنت جهولاً؛ ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال» هل مر بكم أحد‏؟‏ «فقالوا‏:‏ يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة على بغلة بيضاء عليها رحاله وعليها قطيفة ديباج‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم» ذاك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية أموالهم وتلاحق به الناس فأتاه رحال بعد صلاة العشاء الأخيرة ولم يصلوا العصر لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» «فصلو العصر بها بعد العشاء الأخيرة فما عابهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العلماء‏:‏ حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ووفى لكعب بن أسد بما كان عاهده، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد يا معشر يهود إنكم قد نزل من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم‏.‏ قالوا‏:‏ وما هن‏؟‏ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتؤمنون على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره‏.‏ قال‏:‏ فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف ولا نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء‏.‏ قالوا‏:‏ نقتل هؤلاء المساكين فما في العيش بعدهم خير‏.‏ قال‏:‏ فإن أبيتم هذه الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فانزلوا فلعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة‏.‏ قالوا‏:‏ نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من قبلنا إلا ما قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك‏.‏ قال‏:‏ ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازماً ليلة من الدهر ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه سلم أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بن عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا‏.‏ فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم‏.‏ فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم‏.‏ فقالوا‏:‏ يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت النبي صلى الله عليه سلم حتى ربط في المسجد إلى عمود من عمده وقال والله لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله لا يطأ أرض بني قريظة أبداً ولا يراني الله في بلد قد خنت الله ورسوله فيه أبداً‏.‏

فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه قال «أما لو قد جاءني لاستغفرت له فأما إذا فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، ثم إن الله أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقلت‏:‏ مم ضحكت يا رسول الله أضحك الله سنك‏؟‏ قال‏:‏ تيب على أبي لبابة‏.‏ فقلت‏:‏ ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال بلى إن شئت» قال فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب‏.‏ فقالت‏:‏ يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك‏.‏ قال‏:‏ فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله هو الذين يطلقني بيده فلما مر عليه خارجاً إلى الصبح أطلقه‏.‏ قال‏:‏ ثم إن ثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم من فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وخرج في تلك الليلة عمرو بن السعدي القرظي فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة، فلما رآه قال‏:‏ من هذا قال‏:‏ عمرو بن السعدي كان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لا أغدر بمحمد صلى الله عليه وسلم أبداً فقال محمد بن مسلمة اللهم لا تحرمني من عثرات الكرام، فخلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه فقال «ذاك رجل نجاه الله بوفائه»؛ وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحت برمته ملقاة ولا يدري أين ذهب‏.‏ فقال‏:‏ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثب الأوس وقالوا يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت‏.‏

وقد كان رسول الله صلى الله عليه سلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه‏.‏

فسأله إياهم عبد الله بن أبي سلول فوهبهم له‏.‏ فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلى‏.‏ قال‏:‏ فذلك إلى سعد بن معاذ» وكان سعد جعله رسول الله صلى الله عليه سلم في مسجده في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة وكانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق «اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب»، فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه سلم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له وسادة من أدم وكان رجلاً جسيماً ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه‏.‏ قال‏:‏ «قد آن لسعد أن تأخذه في الله لومة لائم» فرجع بعض من كان معه من قومه إلا دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قوموا إلى سيدكم فأنزلوه فقاموا إليه وقالوا‏:‏ يا أبا عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك مواليك فتحكم فيهم‏.‏ فقال سعد عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت‏.‏ قالوا‏:‏ نعم قال وعلى من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم‏.‏ قال سعد‏:‏ فاني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد» لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة «ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث من نساء بني النجار ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق يخرج بهم أرسالاً وفيهم عدو الله ورسوله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر لهم يقول‏:‏ كانوا بين الثمانمائة إلى التسعمائة وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً يا كعب ما ترى ما يصنع بنا قال أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وأن من يذهب به منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بحيي بن أخطب عدو الله وعليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه وروي عن عائشة قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهراً وبطناً ورسول الله صلى الله عليه سلم يقتل رجالهم بالسيف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت أنا والله قلت ويلك مالك قالت أقتل قلت ولم قالت حدثا أحدثته قالت فانطلق بها فضرب عنقها وكانت عائشة تقول ما أنسى عجباً منها طيب نفس وكثرة ضحك وقد عرفت أنها تقتل قال الواقدي وكان اسم المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي وكانت قتلت خلاد بن سويد قال وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هناك‏.‏

وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي ويكنى أبا عبد الرحمن كان مّنَّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجلية يوم بعاث أخذه فجز ناصيته ثم خلى سبيله فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني قال وهل يجهل مثلي مثلك قال إني أريد أن أجزيك بيدك عندي قال إن الكريم يجزي الكريم قال ثم أتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه سلم فقال يا رسول الله قد كان الزبير عندي يد وله عليَّ منة وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هو لك» فأتاه فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أهله وأولاده فقال «هم لك» فأتاه فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني امرأتك وولدك فهم لك فقال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما له يا رسول الله قال «هو لك»

فأتاه فقال إن رسول الله صلى لله عليه وسلم قد أعطاني مالك فهو لك فقال أي ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتراءى فيه عذارى الحي كعب بن أسد قال قتل قال فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا كررنا عزال بن شموال قال قتل قال فما فعل المجلسان يعني بني كعب وبني قريظة بني عمرو بن قريظة قال قتلوا قال فإني أسألك بيد عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضربت عنقه فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله حتى يلقى الأحبة قال يلقاهم والله في نار جهنّم خالداً أبداً قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم على المسلمين وأغنم في ذلك اليوم سهمين للخيل وسهماً للرجال فكان للفارس ثلاثة أسهم سهمان للفرس ولفارسه سهم وللراجل من ليس له فرس سهم وكانت الخيل ستة وثلاثين فرساً وكان أول يوم وقع فيه السهمان ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهه بهم خيلا وسلاحاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي عنها وفي في ملكه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب‏.‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه بذلك من أمرها‏.‏ فبينما هو بين أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال‏:‏ يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك فلما قضي شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال اللهم إنك علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئاً فأبقني له وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد‏.‏ قالت‏:‏ عائشة فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر وبكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي‏.‏

قالت‏:‏ وكانوا كما قال الله تعالى ‏{‏رحماء بينهم‏}‏ ‏(‏خ‏)‏ عن سلمان بن صرد قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب «الآن نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم» ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه سلم كان يقول «لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده»‏.‏

قوله تعالى ‏{‏يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن‏}‏ أي متعة الطلاق ‏{‏وأسرحكن سراحاً جميلاً‏}‏ أي من غير ضرر ‏{‏وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً‏}‏ سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه من عرض الدنيا شيئاً وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهراً، ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق الله رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه‏.‏ فقال عمر‏:‏ لأعلمن لكم شأنه قال فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ «يا رسول الله أطلقتهن قال‏:‏» لا «قلت‏:‏ يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن‏.‏ قال‏:‏» نعم إن شئت «فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت هذه الآية ‏{‏ولو رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ فكنت أنا استنبطت هذا الأمر» وأنزل الله آية التخيير وكان تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة خمسة من قريش وهو‏:‏ عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة، وأربع من غير قرشيات وهن زينب بن جحش الأسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابعتها على ذلك فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقالت تعالى ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ ‏(‏م‏)‏ عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ «دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد رسول الله صلى الله عليه سلم جالساً وحوله نساؤه واجماً ساكتاً‏.‏ فقال‏:‏ لأقولن شيئاً أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله لقد رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها كلاهما يقول‏:‏ تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده قلن والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين حتى نزلت هذه الآية ‏{‏يا أيها النبي قلت لأزواجك إن كنتن‏}‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏للمحسنات منكن أجراً عظيماً‏}‏ قال‏:‏ فبدأ بعائشة فقال‏:‏ يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت‏:‏ وما هو يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا عليها الآية قالت أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت‏:‏ قال‏:‏ لا تسألني امرأة منهن إلى أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً»

قوله واجماً أي مهتماً، والواجم الذي أسكته الهم وعلته الكآبة وقيل الوجوم الحزن‏.‏ قولهم فوجأت عنقها أي دققته وقوله لم يبعني معنتاً العنت المشقة والصعوبة ‏(‏م‏)‏ عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت‏:‏ «لما مضت تسع وعشرون ليلة أعدهن دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بي فقلت‏:‏ يا رسول الله، أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين؛ أعدهن قال‏:‏ إن الشهر تسع وعشرين»‏.‏

فصل في حكم الآية

اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن، حتى يقع بنفس الاختيار أم لا فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم، إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما خيرهن على أنهن إذ اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى ‏{‏فتعالين أمتعكن وأسرحكن‏}‏ بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور، وأنه قال لعائشة‏:‏ «لا تعجلي حتى تستشيري أبويك» وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور، وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً‏.‏ التفريع على حكم الآية اختلف أهل العلم في حكم التخيير، فقال عمر وابن مسعود، وابن عباس‏:‏ إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن عند أصحاب الرأي يقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها وعند الآخرين رجعية وقال زيد بن ثابت‏:‏ إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدة وإذا اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن به قال مالك‏.‏

وروي عن علي أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة واحدة، وإذا اختارت نفسها فطلقة بائنة وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا شيء ‏(‏ق‏)‏ عن مسروق قال‏:‏ ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو الفاً بعد أن تختارني، ولقد سألت عائشة رضي الله عنها، فقالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان طلاقاً وفي رواية فاخترناه فلم يعد ذلك شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة‏}‏ أي بمعصية ظاهرة قيل‏:‏ هو كقوله ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ أي لأن منهن من أتت بفاحشة، فإن الله تعالى صان أزواج الأنبياء عن الفاحشة وقال ابن عباس المراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق ‏{‏يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏ أي مثلين وسبب تضعيف العقوبة، لهن لشرفهن كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة وذلك لأن نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى غيره من الرجال كنسبة الحرة إلى الأمة ‏{‏وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ أي عذابها ‏{‏ومن يقنت منكن لله ورسوله‏}‏ أي تطع الله ورسوله ‏{‏وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين‏}‏ أي مثلي أجر غيرها قيل‏:‏ الحسنة بعشرين حسنة وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين ‏{‏وأعتدنا لها رزقاً كريماً‏}‏ أي الجنة‏.‏ قوله تعالى ‏{‏يا نساء النبي لستن كأحد من النساء‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي ‏{‏إن اتقيتن‏}‏ أي الله فأطعتنه فإن الأكرم عند الله هو الأتقى ‏{‏فلا تخضعن بالقول‏}‏ أي لا تلن بالقول للرجال ولا ترققن الكلام ‏{‏فيطمع الذي في قلبه مرض‏}‏ أي فجور وشهوة وقيل نفاق والمعنى لا تقلن قولاً يجد المنافق والفاجر به سبيلاً إلى الطمع فيكن والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقال إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع فيهن ‏{‏وقلن قولاً معروفاً‏}‏ أي يوجبه الدين والإسلام عند الحاجة إليه، ببيان من غير خضوع وقيل القول المعروف ذكر الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقرن في بيوتكن‏}‏ أي الزمن بيوتكن وقيل هو أمر من الوقار أي كن أهل وقار وسكون ‏{‏ولا تبرجن تبرج‏}‏ قيل‏:‏ هو التكسر والتغنّج والتبختر وقيل‏:‏ هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال ‏{‏الجاهلية الأولى‏}‏ قيل الجاهلية الأولى هو ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ هو زمن داود وسليمان عليهما السلام كانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين، فيرى خلفها منه وقيل كان في زمن نمرود الجبار كانت المرأة، تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي به وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال وقال ابن عباس‏:‏ الجاهلية الأولى ما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة وقيل‏:‏ إن بطنين من ولد آدم عليه السلام كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكانت رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجره نفسه وكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يرمز به الرعاة فجاء بصوت لم يسمع الناس مثمله فبلغ ذلك من حولهم فأتوهم يستعمون إليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن، وأن رجلاً من أهل الجبل، هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم وظهرت الفاحشة فيهن فذلك قوله تعالى ‏{‏ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى‏}‏ وقيل الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام والجاهلية الأخرى، قوم يفعلون مثل فعلهم آخر الزمان وقيل قد تذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى ‏{‏وأقمن الصلاة‏}‏ أي الواجبة ‏{‏وآتين الزكاة‏}‏ أي المفروضة ‏{‏وأطعن الله ورسوله‏}‏ أي فيما أمر وفيما نهى ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس‏}‏ أي الإثم الذي نهى الله النساء عنه‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ يعني عمل الشيطان وما ليس الله فيه رضا، وقيل‏:‏ الرجس الشك وقيل السوء ‏{‏أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏ هم نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن في بيته وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس وتلا قوله تعالى ‏{‏واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة‏}‏ وهو قول عكرمة ومقاتل وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهم إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، يدل عليه ما روي عن عائشة أم المؤمنين قالت «خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن فأدخله فيه، ثم جاء الحسين فأدخله فيه ثم قال‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجل أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏ أخرجه مسلم‏.‏

المرط الكساء والمرحل بالحاء المنقوش عليه صور الرجال، وبالجيم المنقوش عليه صور الرجال، عن أم سلمة قالت‏:‏ «إن هذه الآية نزلت في بيتها، ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيراً‏}‏ قالت وأنا جالسة عند الباب فقلت يا رسول الله ألست من أهل البيت فقال‏:‏ إنك إلى خير أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين فجللهم بكساء وقال‏:‏ اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنه الرجس وطهرهم تطهيراً» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث صحيح غريب عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر، إذا خرج إلى صلاة الفجر يقولالصلاة يا أهل البيت إنما يريد لله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيراً» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث حسن غريب وقال زيد بن أرقم أهل البيت من حرم الصدقة بعده آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس‏.‏

قوله تعالى ‏{‏واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله‏}‏ يعني القرآن ‏{‏والحكمة‏}‏ قيل هي السنة السنة وقيل هي أحكام القرآن ومواعظه ‏{‏إن الله كان لطيفاً‏}‏ يعني بأوليائه وأهل طاعته ‏{‏خبيراً‏}‏ أي بجيمع خلقه‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏إن المسلمين والمسلمات‏}‏ الآية وذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن، ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير تذكر به إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة فأنزل الله هذه الآية‏.‏ عن أم عمارة الأنصارية قالت‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت مالي أرى كل شيء إلى الرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت ‏{‏إن المسلمين والمسلمات‏}‏ أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث غريب وقيل إن إم سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت كعب الأنصارية قالتا للنبي صلى الله عليه وسلم ما بال ربنا يذكر الرجال، ولا يذكر النساء في شيء في كتابه ونخشى أن لا يكون فيهن خير فنزلت هذه الآية وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فدخلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت هل نزل فينا شيء من القرآن قلن لا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله‏:‏ إن النساء لفي خيبة وخسار قال «ومم ذلك» قالت لأنهن لم يذكرن بخير كما ذكر الرجال فأنزل الله إن المسلمين والمسلمات فذكر لهن عشر مراتب مع الرجال، فمدحهن بها معهم الأولى والإسلام وهو الانقياد لأمر الله تعالى وهو قوله‏:‏ إن المسلمين والمسلمات، الثانية الإيمان بما يراد به أمر الله تعالى وهو تصحيح الاعتقاد وموافقة الظاهر للباطن، وهو قوله ‏{‏والمؤمنين والمؤمنات‏}‏ الثالثة الطاعة وهو قوله ‏{‏والقانتين والقانتات‏}‏ الرابعة الصدق في الأقوال والأفعال وهو قوله ‏{‏والصادقين والصادقات‏}‏ الخامسة الصبر على ما أمر الله وفيما ساء وسر وهو قوله ‏{‏والصابرين والصابرات‏}‏ السادسة الخشوع في الصلاة وهو أن لا يلتفت وقيل‏:‏ هو التواضع وهو قوله ‏{‏والخاشعين والخاشعات‏}‏ السابعة الصدقة مما رزق الله وهو قوله ‏{‏والمتصدقين والمتصدقات‏}‏ الثامنة المحافظة على الصوم وهو قوله ‏{‏والصائمين والصائمات‏}‏ التاسعة العفة وهو قوله ‏{‏والحافظين فروجهم‏}‏ يعني عما لا يحل ‏{‏والحافظات‏}‏ العاشرة كثرة الذكر وهو قوله ‏{‏والذاكرين الله كثيراً والذاكرات‏}‏ وقيل لا يكون العبد منهم حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، وروي عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال

«سبق المفردون قالوا‏:‏ يا رسول الله وما المفردون قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» وقال عطاء بن أبي رباح من فوّض أمره إلى الله، فهو داخل في قوله إن المسلمين والمسلمات ومن أقر بأن الله ربه ومحمداً رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله والمؤمنين والمؤمنات ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنة، فهو داخل في قوله والقانتين والقانتات، ومن صان قوله عن الكذب، فهو داخل في قوله والصادقين والصادقات، ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية، فهو داخل في قوله الصابرين والصابرات، ومن صلى، فلم يعرف من عن يمينه وعن شماله، فهو داخل في قوله والخاشعين والخاشعات ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم، فهو داخل في قوله والمتصدقين والمتصدقات ومن صام في كل شهر أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله والصائمين والصائمات، ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله والحافظين فروجهم والحافظات ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله والذاكرين الله كثيراً والذاكرات ‏{‏أعد الله لهم مغفرة‏}‏ أي بمحو ذنوبهم ‏{‏وأجراً عظيماً‏}‏ يعني الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم‏}‏ نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش، وأمهما أمية بن عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب زينب لمولاه زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى زيداً في الجاهلية بعكاظ وأعتقه، وتبناه، فلما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد بن حارثة أبت وقالت‏:‏ أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة وفيها حدة وكذلك كره أخوها ذلك فأنزل الله ‏{‏وما كان لمؤمن‏}‏ يعني عبد الله بن جحش ‏{‏ولا مؤمنة‏}‏ يعني أخته زينب ‏{‏إذا قضى الله ورسوله أمراً‏}‏ يعني نكاح زيد لزينب ‏{‏أن تكون لهم الخيرة من أمرهم‏}‏ أي الاختيار على ما قضى، والمعنى أن يريد غير ما أراد الله أو يمتنع مما أمر الله ورسوله به ‏{‏ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً‏}‏ أي أخطأ خطأ ظاهراً فلما سمعت بذلك زينب وأخوها رضيا وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله صلى الله عليه سلم، فأنكحها زيداً ودخل بها وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما عشرة دنانير وستين درهماً وخماراً، ودرعاً وملحفة وخمسين مداً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك‏}‏ الآية نزلت في زينب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجها من زيد مكثت عنده حيناً، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة فأبصر زينب في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة، ذات خلق من أتم نساء قريش وقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال «سبحان الله مقلب القلوب وانصرف فلما جاء زيد ذكرت له ذلك ففطن زيد وألقى في نفسه كراهيتها في الوقت وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني أريد أن أفارق صاحبتي فقال له مالك أرابك منها شيء قال‏:‏ لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها تتعظم علي بشرفها وتؤذيني بلسانها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجك واتق الله في أمرها» ثم إن زيداً طلقها فذلك قوله عز وجل ‏{‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه‏}‏ أي بالإسلام ‏{‏وأنعمت عليه‏}‏ أي بالإعتاق وهو زيد بن حارثة مولاه ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏ يعني زينب بن جحش ‏{‏واتق الله‏}‏ أي فيها ولا تفارقها ‏{‏وتخفي في نفسك‏}‏ أي تسر وتضمر في نفسك ‏{‏ما الله مبديه‏}‏ أي مظهره قيل كان في قلبه لو فارقها تزوجها قال ابن عباس‏:‏ حبها وقيل ود أنه طلقها ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ قال ابن عباس تستحييهم وقيل تخاف لائمتهم أن يقولوا أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها ‏{‏والله أحق أن تخشاه‏}‏ قال عمر وابن مسعود وعائشة‏:‏ ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد من هذه الآية، وعن عائشة قالت‏:‏ لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه‏}‏ أخرجه الترمذي‏.‏

وقال حديث حسن غريب‏.‏

فصل

فإن قلت‏:‏ ما ذكروه في تفسير هذه الآية، وسبب نزولها من وقوع محبتها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم عندما رآها وإرادته طلاق زيد لها فيه أعظم الحرج، وما لا يليق بمنصبه صلى الله عليه وسلم من مد عينيه لما نهى عنه من زهرة الحياة الدنيا‏.‏ قلت‏:‏ هذا إقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النبي صلى الله عليه وسلم وبفضله وكيف يقال رآها فأعجبته وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت ولا كان النساء يحتجبن منه صلى الله عليه وسلم وهو زوجها لزيد، فلا يشك في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يأمر زيداً بإمساكها، وهو يحب تطليقه إياها ذكر عن جماعة من المفسرين‏.‏ وأصح ما في هذا الباب ما روي عن سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال‏:‏ سألني زين العابدين بن علي بن الحسين قال ما يقول الحسن في قوله تعالى ‏{‏وتخفي في نفسك ما لله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه‏}‏ قلت‏:‏ يقول لما جاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إريد أن أطلق زينب أعجبه ذلك، وقال أمسك عليك زوجك واتق الله فقال علي بن الحسين ليس كذلك فإن الله عز وجل قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها فلما جاء زيد قال‏:‏ إني أريد أن أطلقها قال له‏:‏ أمسك عليك زوجك فعاتبه الله تعالى وقال لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبيدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال تعالى ‏{‏زوجناكها‏}‏ فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه، ولا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجته وإنما أخفى ذلك استحياء أن يخبر زيداً أن التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي وهذا قول حسن مرضي، وكم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من اطلاع الناس عليه وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق لا مقال فيه ولا عيب عند الله وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين هو إنما جعل الله طلاق زيد لها، وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياها لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته كما قال الله تعالى

‏{‏وما كان محمد أبا أحد من رجالكم‏}‏ وقال ‏{‏لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم‏}‏ فإن قلت فما الفائدة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيداً بإمساكها‏.‏ قتل‏:‏ هو أن الله تعالى أعلم نبيه أنها زوجته فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، عن طلاقها وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به فلما طلقها زيد خشي قول الناس يتزوج امرأة ابنه فأمره الله تعالى بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته، وقيل‏:‏ كان في أمره بإمساكها قمعاً للشهوة ورداً للنفس عن هواها وهذا إذا جوزنا القول المتقدم الذي ذكره المفسرون وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها زيد، ومثل ذلك لا يقدح في حال الأنبياء، مع أن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء، وأنه رآها فجأة فاستحسنها ومثل هذه لا نكرة فيه لما طبع عليه البشر من استحسان الحسن، ونظرة الفجأة معفو عنها ما لم يقصد مأثماً لأن الود وميل النفس من طبع البشر والله أعلم‏.‏

وقوله ‏{‏أمسك عليك زوجك واتق الله‏}‏ أمر بالمعروف، وهو حسن لا إثم فيه وقوله ‏{‏والله أحق أن تخشاه‏}‏ لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام، قد قال أنا أخشاكم لله وأتقاكم له ولكنه لما ذكر الخشية من الناس، ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال في جميع الأشياء‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏فلما قضى زيد منها وطراً‏}‏ أي حاجته منها، ولم يبق له فيها أرب وتقاصرت همته عنها وطابت عنها نفسه وطلقها، وانقضت عدتها وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجته المتبني تحل بعد الدخول بها ‏{‏زوجناكها‏}‏ قال أنس‏:‏ كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول‏:‏ زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، وقال الشعبي‏:‏ «كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث ما من امرأة من نسائك تدل بهن جدي وجدك واحد وإني أنكحنيك الله في السماء وإن السفير جبريل عليه السلام» ‏(‏م‏)‏ عن أنس قال لما انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لزيد‏:‏ اذهب فاذكرها على قال فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال‏:‏ فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت يا زينب أرسل رسول الله يذكرك قالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها بغير إذن قال‏:‏ فلقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار فخرج الناس، وبقي أناس يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن يا رسول الله كيف وجدت أهلك قال‏:‏ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أم غيري قال فانطلق حتى دخل البيت، وذهبت لأدخل معه فألقى الستر بيني وبينهم ونزل الحجاب ‏(‏ق‏)‏ عن أنس قال ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه، ما أولم على زينب أولم بشاة وفي رواية أكثر وأفضل، ما أولم على زينب قال ثابت‏:‏ بم أولم قال أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏لكيلا يكون على المؤمنين حرج‏}‏ أي إثم ‏{‏في إزواج أدعيائهم‏}‏ جمع الدعي وهو المتبني ‏{‏إذا قضوا منهن وطراً‏}‏ يقول‏:‏ يقول زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي كنت تبنيته، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبني وإن كان قد دخل بها المتبني بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب ‏{‏وكان أمر الله مفعولاً‏}‏ أي قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه سلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 44‏]‏

‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له‏}‏ أي فيما أحل الله له من النكاح، وغيره ‏{‏سنة الله في الذين خلوا من قبل‏}‏ معناه سن الله سنة في الأنبياء، وهو أن لا حرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح، وغيره فإنه كان لهم الحرائر والسراري فقد كان لداود عليه السلام مائة امرأة، ولسليمان ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية فكذلك سن لمحمد صلى الله عليه وسلم التوسعة عليه كما سن لهم ووسع عليهم ‏{‏وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏}‏ يعني قضاء مقضياً أن لا حرج على أحد فيما أحل له ثم أثنى الله على الأنبياء بقوله ‏{‏الذين يبلغون رسالات الله‏}‏ يعني فرائض الله وسننه وأوامره ونواهيه إلى من أرسلوا إليهم ‏{‏ويخشونه‏}‏ يعني يخافونه ‏{‏ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏ يعني لا يخافون قالت‏:‏ الناس ولائمتهم فيما أحل لهم وفرض عليهم ‏{‏وكفى بالله حسيباً‏}‏ أي حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبهم‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏ما كان محمد أبا أحد من رجالكم‏}‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب قال‏:‏ الناس إن محمداً تزوج امرأة ابنه فأنزل الله ‏{‏ما كان محمد أبا أحد من رجالكم‏}‏ يعني زيد بن حارثة والمعنى أنه لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح‏.‏ فإن قلت‏:‏ قد كان له أبناء القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم وقال الحسن‏:‏‏:‏ إن ابني هذا سيد‏.‏ قلت‏:‏ قد أخرجوا من حكم النفي بقوله من رجالكم وهؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال وقيل‏:‏ أراد بالرجال الذي لم يلدهم ‏{‏ولكن رسول الله‏}‏ أي إن كل رسول هو أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه ‏{‏وخاتم النبيين‏}‏ ختم الله به النبوة فلا نبوة بعده أي ولا معه قال ابن عباس‏:‏ يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً ويكون بعده نبياً وعنه قال‏:‏ إن الله لما حكم أن لا نبي بعده، لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً ‏{‏وكان الله بكل شيء عليماً‏}‏ أي دخل في علمه أنه لا نبي بعده‏.‏ فإن قلت‏:‏ قد صح أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان بعده وهو نبي قلت إن عيسى عليه السلام ممن نبيء قبله وحين ينزل في آخر الزمان ينزل عاملاً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ومصلياً إلى قبلته كأنه بعض أمته ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون ويتعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»

وعن جابر نحوه وفيه جئت فختمت الأنبياء ‏(‏ق‏)‏ عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله الكفر بي وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» وقد سماه الله رؤوفاً رحيماً ‏(‏م‏)‏ عن أبي موسى قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي، لنا نفسه أسماء فقال «أنا محمد وأنا أحمد وأنا المقفي وأنا الماحي ونبي التوبة ونبي الرحمة» المقفي هو المولى الذاهب، يعني آخر الأنبياء المتبع لهم فإذا قفي فلا نبي بعده‏.‏

قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يفرض الله عز وجل على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلها فقال تعالى ‏{‏فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم‏}‏ وقال تعالى ‏{‏اذكروا الله ذكراً كثيراً‏}‏ يعني بالليل والنهار في البر والبحر وفي الصحة والسقم وفي السر والعلانية، وقيل الذكر الكثير أن لا ينساه أبداً ‏{‏وسبحوه‏}‏ معناه إذا ذكرتموه ينبغي لكم أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء ‏{‏بكرة وأصيلاً‏}‏ فيه إشارة إلى المداومة لأن ذكر الطرفين يفهم منه الوسط أيضاً وقيل‏:‏ معناه صلوا له بكرة صلاة الصبح وأصيلاً يعني صلاة العصر وقيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقيل‏:‏ معنى سبحوه قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله زاد في نسخه العلي العظيم فعبر بالتسبيح عن أخواته والمراد بقوله‏:‏ كثيراً هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والحائض والمحدث ‏{‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏}‏ الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين وقيل الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده والثناء عليه قال أنس‏:‏ لما نزلت ‏{‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏}‏ قال أبو بكر‏:‏ ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله هذه الآية ‏{‏ليخرجكم من الظلمات إلى النور‏}‏ يعني أنه برحمته وهدايته، ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏ فيه بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن قوله يصلي عليكم غير مختص بالسامعين، وقت الوحي بل هو عام لجميع المسلمين ‏{‏تحيتهم‏}‏ يعني تحية المؤمنين ‏{‏يوم يلقونه‏}‏ أي يرون الله يوم القيامة ‏{‏سلام‏}‏ أي يسلم الرب تعالى عليهم ويسلمهم من جميع الآفات وروي عن البراء بن عازب قال ‏{‏تحيتهم يوم يلقونه سلام‏}‏ يعني يلقون ملك الموت، لا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه عن ابن مسعود قال إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال رب يقرئك السلام وقيل‏:‏ تسلم عليهم الملائكة حين يخرجون من قبورهم تبشرهم ‏{‏وأعد لهم أجراً كريماً‏}‏ يعني الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً‏}‏ أي للرسل بالتبليغ وقيل شاهداً على الخلق كلهم يوم القيامة ‏{‏ومبشراً‏}‏ أي لمن آمن بالجنة ‏{‏ونذيراً‏}‏ أي لمن كذب بالنار ‏{‏وداعياً إلى الله‏}‏ أي إلى توحيده وطاعته ‏{‏بإذنه‏}‏ أي بأمره ‏{‏وسراجاً منيراً‏}‏ سماه سراجاً منيراً لأنه جلا منه ظلمات الشرك واهتدى به الضالون كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير، وقيل معناه أمد الله بنور نبوته نور البصائر كما يمد بنور السراج نور الأبصار ووصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء‏.‏ فإن قلت لم سماه سراجاً، ولم يسمه شمساً والشمس أشد إضاءة من السرج وأنور‏.‏ قلت‏:‏ نور الشمس لا يمكن أن يؤخذ منه شيء بخلاف نور السراج فإنه يؤخذ منه أنوار كثيرة ‏{‏وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً‏}‏ أي ما تفضل به عليهم زيادة على الثواب وقيل‏:‏ الفضل هو الثواب وقيل هو تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم ‏{‏ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ اصبر على أذاهم لا تجازهم عليه وهذا منسوخ بآية القتال ‏{‏وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً‏}‏ أي حافظاً‏.‏ قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن‏}‏ أي تجامعوهن، ففي الآية دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح حتى لو قال لامرأة أجنبية إذا نكحتك فأنت طالق، أو قال‏:‏ كل امرأة أنكحها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق، وهذا قول علي وابن عباس وجابر ومعاذ وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب وعروة وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وطاوس، الحسن وعكرمة وعطاء وسليمان بن يسار، ومجاهد والشعبي وقتادة وأكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي وروي عن ابن مسعود أنه يقع الطلاق، وهو قول إبراهيم النخعي وأصحاب الرأي وقال ربيعة ومالك والأوزاعي‏:‏ إن عين امرأة وقع وإن عمم فلا يقع وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كذبوا على ابن مسعود، وإن كان قالها فزلة من عالم الرجل يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق والله يقول ‏{‏إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن‏}‏ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن، روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا طلاق فيما لا تملك ولا عتق فيما لا تملك ولا بيع فيما لا تملك» أخرجه أبو داود والترمذي بمعناه ‏(‏خ‏)‏ عن ابن عباس قال‏:‏ جعل الله الطلاق بعد النكاح أخرجه الترمذي في ترجمة باب بغير إسناد عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«لا طلاق قبل النكاح» ‏{‏فما لكم عليهم من عدة تعتدونها‏}‏ أي تحصونها بالأقراء والأشهر، أجمع العلماء أنه إذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة، فلا عدة وذهب أحمد إلى أن الخلوة توجب العدة والصداق ‏{‏فمتعوهن‏}‏ أي أعطوهن ما يستمتعن به قال ابن عباس‏:‏ هذا إذا لم يكن سمى لها صداقاً فلها المتعة وإن كان قد فرض لها صداقاً فلها نصف الصداق، ولا متعة لها وقال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله ‏{‏فنصف ما فرضتم‏}‏ وقيل‏:‏ هذا أمر ندب فالمتعة مستحبة لها مع نصف المهر وقيل‏:‏ إنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية ‏{‏وسرحوهن سراحاً جميلاً‏}‏ أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير إضرار بهن‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزاوجك اللاتي آتيت أجورهن‏}‏ أي مهورهن ‏{‏وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك‏}‏ أي من السبي فتملكها مثل صفية وجويرية، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له إبراهيم ‏{‏وبنات عمك وبنات عماتك‏}‏ يعني نساء قريش ‏{‏وبنات خالك وبنات خالاتك‏}‏ يعني نساء بني زهرة ‏{‏اللاتي هاجرن معك‏}‏ إلى المدينة فمن لم تهاجر، منهن لم يجز له نكاحها عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت‏:‏ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ الآية قالت‏:‏ فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ أي أحللنا لك امرأة مؤمنة، وهبت نفسها لك بغير صداق فأما غير المؤمنة، فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه وهل تحل الكتابية بالمهر، فذهب جماعة إلى أنها لا تحل له لقوله ‏{‏وامرأة مؤمنة‏}‏ فدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة، وكان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر لقوله ‏{‏خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ والزيادة على أربع ووجوب تخيير النساء واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، وهو قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء وبه قال ربيعة ومالك والشافعي‏:‏ وقال إبراهيم النخعي وأهل الكوفة، ينعقد بلفظ التمليك والهبة، ومن قال بالقول الأول اختلفوا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة، لقوله تعالى ‏{‏خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، كما في حق سائر الأمة لقوله تعالى ‏{‏إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏ وكان اختصاصه في ترك المهر لا في لفظ النكاح واختلفوا في التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهل كانت عنده امرأة منهم فقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد النكاح، أو بملك يمين وقوله ‏{‏إن وهبت نفسها‏}‏ على سبيل الفرض والتقدير، وقال آخرون‏:‏ بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها فقال الشعبي هي زينب بنت خزيمة الأنصارية الهلالية أم المساكين، وقال قتادة هي ميمونة بنت الحارث وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل هي أم شريك بن جابر‏:‏ من بني أسد وقال عروة بن الزبير‏:‏ هي خولة بنت حكيم من بني سليم‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏قد علمنا ما فرضنا عليهم‏}‏ أي أوجبنا على المؤمنين ‏{‏في أزواجهم‏}‏ أي من الأحكام وهو أن لايتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر ‏{‏وما ملكت أيمانهم‏}‏ أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ‏{‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏ وهذا يرجع إلى أول الآية معناه أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لكي لا يكون عليك ضيق ‏{‏وكان الله غفوراً‏}‏ أي للواقع في الحرج ‏{‏رحيماً‏}‏ أي بالتوسعة على عباده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏ترجي‏}‏ يعني تؤخر ‏{‏من تشاء منهن وتؤوي إليك‏}‏ أي تضم عليك ‏{‏من تشاء‏}‏ قيل هذا للقسم بينهن وذلك أن التسوية بينهن في القسم كانت واجبة عليه صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه الوجوب وصار الاختيار إليه فيهن، وقيل نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة فهجرهن شهراً حتى نزلت آية التخيير فأمره الله تعالى أن يخيرهن فمن اختارت الدنيا فارقها، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين، لا ينحكهن أبداً وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعضهن، دون بعض، أو فضل بعضهن في النفقة والكسوة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط‏.‏ واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن من القسم فقال بعضهم‏:‏ لم يخرج أحداً بل كان صلى الله عليه وسلم مع ما جعل الله له من ذلك يسوي بينهن في القسم، إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم، وجعلت يومها لعائشة وقيل‏:‏ أخرج بعضهن‏.‏ روي عن أبي رزين، قال‏:‏ لما نزل التخيير أشفقن أن يطلقن فقلن يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا فأرجى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن، وآوى إليه بعضهن فكان ممن آوى عليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينت، وكان يقسم بينهن سواء وأرجى منهن خمساً أم حبيبة وميمونة وسودة وجويرة وصفية، فكان يقسم لهن ما يشاء وقال ابن عباس تطلق من تشاء منهن، وتمسك من تشاء وقال الحسن‏:‏ تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من النساء قال وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلى الله وعليه وسلم وقيل تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها ‏(‏ق‏)‏ عن عروة قال‏:‏ كانت خولة بنت حكيم من اللاتي، وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك ‏{‏ومن ابتغيت ممن عزلت‏}‏ أي طلبت أن تؤدي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسمة ‏{‏فلا جناح عليك‏}‏ أي لا إثم عليك فأباح الله له ما ترك القسم، لهن، حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن من نوبتها ويطأ من يشاء منهم في غير نوبتها ويرد إلى فراشه من عزل منهن، تفضيلاً له على سائر الرجال ‏{‏ذلك أدنى أن تقرأ أعينهن ولا يحزن‏}‏ أي ذلك التخيير الذي خبرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن، وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله تعالى ‏{‏ويرضين بما آتيتهن‏}‏ أي أعطيتهن ‏{‏كلهن‏}‏ من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء ‏{‏والله يعلم ما في قلوبكم‏}‏ أي من أمر النساء إلى بعضهن ‏{‏وكان الله عليماً‏}‏ أي مما في ضمائركم ‏{‏حليماً‏}‏ أي عنكم‏.‏

قوله تعالى ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ أي من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خيرهن فاخترن الله ورسوله شكر الله لهن ذلك وحرم عليه النساء سواهن، ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن، قاله ابن عباس‏:‏ واختلفوا هل أبيح له النساء بعد ذلك فروي عن عائشة أنها قالت «ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث حسن صحيح، وللنسائي عنها «حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما يشاء» وقال أنس «مات رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحريم» وقيل لأبي بن كعب لو مات نساء النبي صلى الله عليه وسلم أكان يحل له أن يتزوج قال‏:‏ وما يمنعه من ذلك قيل له قوله تعالى ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ قال‏:‏ إنما أحل له ضرباً من النساء فقال تعالى ‏{‏يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ الآية ثم قال ‏{‏لا تحل لك النساء من بعد‏}‏ وقيل معنى الآية لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ‏{‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ أي بالمسلمات غيرهن من الكتابيات، لأنه لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك أي من الكتابيات فتسري بهن وقيل في قوله ‏{‏ولا تبدل بهن أزواج‏}‏ كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم، يقول الرجل للرجل انزل لي عن امرأتك وأنزل عن امرأتي فأنزل الله تعالى ‏{‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ أي تبادل بهن من أزواج أي تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته فحرم ذلك ‏{‏إلا ما ملكت يمينك‏}‏ أي لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت، فأما الحرائر فلا ‏{‏ولو أعجبك حسنهن‏}‏ يعني ليس لك أن تطلق أحد من نسائك، وتنكح بدلها أخرى، ولو أعجبك جمالها، قال ابن عباس‏:‏ يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب لما استشهد جعفر أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها فنهي عن ذلك ‏{‏إلا ما ملكت يمينك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ملك بعد هؤلاء مارية ‏{‏وكان الله على كل شيء رقيباً‏}‏ أي حافظاً وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء، ويدل عليه ما روى عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» أخرجه أبو داود‏.‏ ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة «أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم» انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً «قال الحميدي‏:‏ يعني هو الصغر عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏» خطبت امرأة فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم هل نظرت إليها قلت‏:‏ لا قال فانظر إليها فانه أحرى أن يؤدم بينكما «أخرجه الترمذي‏:‏ وقال حديث حسن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم‏}‏ الآية قال أكثر المفسرين نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بن جحش حين بنى لها رسول الله صلى الله عليه سلم ‏(‏ق‏)‏ عن أنس بن مالك‏:‏ أنه كان ابن عشر سنين مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قال فكانت أم هانئ تواظبني على خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخدمته عشر سنين وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول ما نزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش حين أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس ولم يقوموا فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ورجعت، حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة، وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه بالستر وأنزل الحجاب زاد في رواية قال دخل يعني النبي صلى الله عليه وسلم البيت وأرخى الستر، وإني لفي الحجرة وهو يقول ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم‏}‏ إلى قوله ‏{‏والله لا يستحيي من الحق‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة «أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل، إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، وكان عمر رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فنادها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب» المناصع المواضع الخالية، لقضاء الحاجة من البول أو الغائط والصعيد وجه الأرض والأفيح الواسع ‏(‏ق‏)‏، عن أنس وابن عمر أن عمر قال «وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزل ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ وقلت‏:‏ يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت الآية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن فنزلت كذلك‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ إنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام قبل أن يدرك ثم يأكلون، ولا يخرجون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم، فنزلت الآية ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم‏}‏ يعني إلا أن تدعوا ‏{‏إلى طعام‏}‏ فيؤذن لكم فتأكلون ‏{‏غير ناظرين إناه‏}‏ يعني منتظرين نضجه ووقت إدراكه ‏{‏ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم‏}‏ أي أكلتم الطعام ‏{‏فانتشروا‏}‏ أي فاخرجوا من منزله وتفرقوا ‏{‏ولا مستأنسين لحديث‏}‏ أي لا تطيلوا الجلوس ليستأنس بعضكم بحديث بعض، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون فنهوا عن ذلك ‏{‏إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم‏}‏ أي فيستحيي من إخراجكم ‏{‏والله لا يستحيي من الحق‏}‏ أي لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال، وقيل‏:‏ لا يستحيي من الحق بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم وهذا أدب أدب الله به الثقلاء، وقيل‏:‏ بحسبك من الثقلاء أن الله لم يحتملهم ‏{‏وإذا سألتموهن متاعاً‏}‏ أي وإذا سألتم نساء النبي صلى الله عليه وسلم حاجة ‏{‏فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏ أي من وراء ستر فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم متنقبة كانت أو غير متنقبة ‏{‏ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن‏}‏ أي من الريب ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏ أي ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء ‏{‏ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً‏}‏ نزلت في رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم، قال إذا‏:‏ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأنكحن عائشة‏.‏ قيل هو طلحة بن عبيد الله فأخبر الله أن ذلك محرم، وقال ‏{‏إن ذلك كان عند الله عظيماً‏}‏ أي ذنباً عظيماً وهذا من إعلام تعظيم الله لرسوله الله صلى الله عليه وسلم، وإيجاب حرمته حياً وميتاً وإعلامه بذلك مما طيب نفسه وسر قلبه واستفرغ شكره فإن من الناس من تفرط غيرته على حرمه حتى يتمنى لها الموت قبله لئلا تنكح بعده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏إن تبدوا شيئاً‏}‏ أي من أمر نكاحهن على ألسنتكم ‏{‏أو تخفوه‏}‏ أي في صدوركم ‏{‏فإن الله كان بكل شيء عليماً‏}‏ أي يعلم سركم وعلانيتكم، نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ قال رجل من الصحابة ما بالنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا، فنزلت هذه الآية، ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله، ونحن أيضاً يا رسول الله نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله عز وجل ‏{‏لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن‏}‏ أي لا إثم عليهن في ترك الحجاب عن هؤلاء الأصناف من الأقارب ‏{‏ولا نسائهن‏}‏ قيل أراد به النساء المسلمات، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلى الله عليه سلم وقيل هو عام في المسلمات والكتابيات وإنما قال ولا نسائهن لأنهن من أجناسهن ‏{‏ولا ما ملكت أيمانهن‏}‏ اختلفوا في أن عبد المرأة هل يكون محرماً لها أم لا فقال قوم بل يكون محرماً لقوله تعالى ولا ما ملكت أيمانهن، وقال قوم العبد كالأجانب والمراد من الآية الإماء دون العبيد ‏{‏واتقين الله‏}‏ أي أن يراكن أحد غير هؤلاء ‏{‏إن الله كان على كل شيء‏}‏ أي من أعمال العباد ‏{‏شهيداً‏}‏ قوله عز وجل ‏{‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أراد أن الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له وعنه أيضاً يصلون يتبركون وقيل الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار فصلاته ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء ‏{‏يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه‏}‏ أي ادعوا له بالرحمة ‏{‏وسلموا تسليماً‏}‏ أي حيوه بتحية الإسلام‏.‏

فصل في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها

اتفق العلماء على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم اختلفوا فقيل تجب في العمر مرة وهو الأكثر وقيل‏:‏ تجب في كل صلاة في التشهد الأخير وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وقيل‏:‏ تجب كلما ذكر واختاره الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية والواجب اللهم صل على محمد وما زاد سنة ‏(‏ق‏)‏ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال‏:‏ لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك‏؟‏ قال‏:‏ «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»

‏(‏ق‏)‏ عن أبي حميد الساعدي قال‏:‏ قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال «قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» ‏(‏م‏)‏ عن أبي مسعود البدري؛ قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد‏:‏ أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم» ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً» عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات» أخرجه الترمذي وله عن أبي طلحة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر في وجهه فقلت إنا لنرى البشر في وجهك قال‏:‏ أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشراً» وله عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغوني عن أمتي السلام» عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب‏.‏ وله عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البخيل الذي ذكرت عنده فلم يصل علي» أخرجه الترمذي‏:‏ وقال حديث حسن غريب صحيح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صلي على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد» أخرجه أبو داود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 67‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً‏}‏ قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون فأما اليهود فقالوا‏:‏ عزير ابن الله ويد الله مغلولة وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وأما النصارى فقالوا المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وأما المشركون فقالوا‏:‏ الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه ‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي، فقوله اتخذ ولداً وأنا الأحد الصمد لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد» ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي أقلب الليل والنهار» معنى هذا الحديث‏:‏ أنه كان من عادة العرب في الجاهلية أن يذموا الدهر ويسبوه عند النوازل، لاعتقادهم أن الذي يصيبهم من أفعال الدهر فقال الله تعالى أنا الدهر أي أنا الذي أحل بهم النوازل، وأنا فاعل لذلك الذي تنسبونه إلى الدهر في زعمكم، وقيل معنى يؤذون الله يلحدون في أسمائه وصفاته وقيل‏:‏ هم أصحاب التصاوير ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ يقول «قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة» وقيل‏:‏ يؤذون الله أي يؤذون أولياء الله، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «قال الله تعالى من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» وقال تعالى‏:‏ «من أهان ولياً فقد بارزني بالمحاربة» ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب المعاصي، ذكر ذلك على ما يتعارفه الناس بينهم لأن الله تعالى منزه عن أن يلحقه أذى من أحد، وأما إيذاء الرسول فقال ابن عباس هو أنه شج وجهه وكسرت رباعيته وقيل ساحر شاعر معلم مجنون ‏{‏والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا‏}‏ أي من غير أن عملوا ما أوجب أذاهم وقيل يقعون فيهم ويرمونهم بغير جرم ‏{‏فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً‏}‏ قيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه، ويشتمونه وقيل نزلت في شأن عائشة وقيل نزلت في الزناة الذين يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء، إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيتبعون المرأة فإن سكتت تبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحداً تخرج الحرة والأمة في درع وخمار فشكوا ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ‏{‏والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات‏}‏ الآية، ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء، فقال تعالى، ‏{‏يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين‏}‏‏.‏

أن يرخين ويغطين ‏{‏عليهن من جلابيبهن‏}‏ جمع جلباب وهو الملاءة التي تشمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقيل الملحفة وكل ما يستتر به من كساء، وغيره‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة ليعلم أنهن حرائر وهو قوله تعالى ‏{‏ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين‏}‏ أي لا يتعرض لهن ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ أي لما سلف منهن قال أنس‏:‏ مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة، وقال يالكاع اتتشبهين بالحرائر ألق القناع‏.‏ لكاع كلمة تقال لمن يستحقر به مثل العبد والأمة والخامل والقليل العقل مثل قولك يا خسيس‏.‏ قوله تعالى ‏{‏لئن لم ينته المنافقون‏}‏ أي عن نفاقهم ‏{‏والذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي فجور وهم الزناة ‏{‏والمرجفون في المدينة‏}‏ أي بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى لله عليه وسلم يوقعون في الناس أنهم قد قتلوا وهزموا ويقولون‏:‏ قد أتاكم العدو ونحو هذا من الأراجيف، وقيل‏:‏ كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتفشوا الأخبار ‏{‏لنغرينك بهم‏}‏ يعني لنحرشنك بهم ولنسلطنك عليهم ‏{‏ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً‏}‏ أي لا يساكنونك في المدينة إلا قليلاً أي حتى يخرجوا منها وقيل لنسلطنك عليهم حتى تقتلهم وتخلي منهم المدينة ‏{‏ملعونين‏}‏ أي مطرودين ‏{‏أينما ثقفوا‏}‏ أي وجدوا وأدركوا ‏{‏أخذوا وقتلوا تقتيلاً‏}‏ أي الحكم فيهم هذا على الأمر به ‏{‏سنة الله‏}‏ أي كسنة الله ‏{‏في الذين خلوا من قبل‏}‏ أي في المنافقين والذين فعلوا مثل ما فعل هؤلاء أن يقتلوا حيثما ثقفوا ‏{‏ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏}‏ قوله عز وجل ‏{‏يسألك الناس عن الساعة‏}‏ قيل إن المشركين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن وقت قيام الساعة استعجالاً على سبيل الهزء وكان اليهود يسألونه عن الساعة امتحاناً، لأن الله تعالى عمى عليهم علم وقتها في التوراة فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله ‏{‏قل إنما علمها عند الله‏}‏ يعني إن الله تعالى قد استأثر به ولم يطلع عليه نبياً ولا ملكاً ‏{‏وما يدريك‏}‏ أي أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها ‏{‏لعل الساعة تكون قريباً‏}‏ أي إنها قريبة الوقوع وفيه تهديد للمستعجلين، وإسكات للممتحنين ‏{‏إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً يوم تقلب وجوههم في النار‏}‏ أي تتقلب ظهر البطن حين يسحبون عليها ‏{‏يقولون يا ليتنا أطعنا الرسولا‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا‏}‏ يعني رؤوس الكفر الذي لقنوهم الكفر، وزينوه لهم ‏{‏فأضلونا السبيلا‏}‏ يعني سبيل الهدى‏.‏